“يعني إنت يا إبني شغال سباك على القمر؟”
عبارة أضحكتنا كثيرًا ونحن نقرأ قصة الدكتور عصام حجي، الذي يرويها حينما ذهب إلى قريته في سندوب بمدينة المنصورة، وعلمت جدته بخبر قدومه فأخبرت جميع أهل القرية، وحينما اقترب من بيت جدته وجد حشدًا أمام البيت يقومون بتقديم أوراق التحاليل والأشعة لاستشارة الدكتور ابن بلدهم، ولكنه فاجأهم بأنه ليس طبيبًا بشريًّا، وحينما سألته جدته عن السبب أخبرها أنه حاصل على دكتوراه في اكتشاف المياه ودراسات الفضاء لا في الطب البشري، فكان هذا الرد العفوي من المرأة التي ولدت في عام 1918 ولم تتيسر لها الظروف كي تنال حظها في التعليم.
وبالرغم من طرافة القصة إلا أنها تعكس واقعًا شديد الأهمية يتلخص في ثقافة المجتمع نحو الوظائف ونوعها، وأن هناك وظائف عليا محدودة وأخرى تأتي بعدها وكأنه هرم كلما ارتفعت عن القاعدة قلت المساحة.
هذا بالإضافة إلى التنميط الشديد للوظائف، وأن المهندس يعمل مهندسًا والدكتور يعمل دكتورًا، وخريج كلية الحقوق يعمل محاميًّا إلى غير ذلك من الثوابت التي جعلت مجرد التفكير في تغيير الوظيفة من مجال إلى مجال أمرًا بالغ الصعوبة وله الكثير من التبعات أبرزها التبعات الاجتماعية بداية من الأب والأم، مرورًا بالأقارب، ثم باقي أفراد المجتمع، وقد ظلت تلك الثقافة هي الأصل حتى نهاية القرن الماضي الذي شهد العديد من التغيرات التي جعلت مجالًا مثل الإرشاد المهني يكون له دورًا بارزًا في نجاح الكثير من الأفراد والوظائف.
ولذلك فقد أصبح قرار تغيير المسار المهني يتخذه الكثيرون في وقتنا الحالي لأسباب اقتصادية أو لأسباب شخصية، كما أصبح قرار تغيير المسار المهني أمرًا مقبولًا اجتماعيًّا أكتر مما مضى، خاصة في ظل تغير العالم بسبب الثورة التكنولوجية؛ ما أدى إلى ظهور وظائف جديدة كل عام وفي الوقت نفسه اختفاء أو تناقص وظائف أخرى، ما يجبر البعض أحيانًا على تغيير مسارهم المهني، كذلك أصبحت هناك وظائف أقل استهلاكًا للوقت ومجزية ماديًّا أكثر من الوظائف الروتينية التقليدية.
فإذا فكرت في تغيير مسارك المهني سواء في منتصف العشرينات أو في بداية الثلاثينات أو حتى في بداية الخمسين فاطمئن، أنت لست وحدك، بل لقد أصبحت الظروف أكثر سهولة من ذي قبل، لأن هناك العديد من الأشخاص في الوطن العربي، قاموا أو يريدون أن يأخذوا تلك الخطوة التي قد تكون أحيانًا خطوة حتمية، وذلك للعديد من الأسباب، منها:
– استجابة لتغير سوق العمل: فقد تغير سوق العمل في ظل التغير الاقتصادي والتكنولوجي والاجتماعي في العالم كله، حيث اختفت العديد من الوظائف أو قل احتياج سوق العمل فيها، منها على سبيل المثال: ظهور خدمات نقل الأجرة مثل أوبر وكريم في مقابل سائق التاكسي، وزيادة استخدام التكنولوجيا في التصنيع مقابل العمالة اليدوية، ما يجبر العديد من المؤسسات والشركات على الاستغناء عن العاملين في هذه الوظيفة؛ فيجد الشخص نفسه أمام قرار تغيير المسار المهني لأن وظيفته أصبحت غير مطلوبة أو محدودة الطلب ما يعني أن المنافسة فيها قاسية.
– نمط العمل غير المرضي: فالتواجد في اقتصاد تنافسي يجبر الشخص على العمل أيام كاملة ويظل متاح 24 ساعة و7 أيام أسبوعيًّا، وبالطبع هذا النمط لا يتناسب أحيانًا مع احتياجات من لديهم مسئوليات عائلية أو حتى الشباب الذي يريد أن يكون لديه حياة ذات معنى أكبر من مجرد الذهاب للعمل والعودة منه وتكرار هذا الروتين يوميًّا؛ ولهذا السبب يبدأ العديد من الأشخاص في البحث أو العمل في وظائف حرة تتناسب مع نمط الحياة الذي يسعون إليه.
– تحقيق الرضا الوظيفي: فالعمل لم يعد هدفه الحصول على المال فقط، ولكن هدفه أيضًا الوصول إلى الرضا والسعادة، أثناء العمل بشكل خاص وفي الحياة بشكل عام، وذلك من خلال العمل في وظيفة تتناسب مع ميول الشخص وإمكانياته وقيمه، ولذلك يتخذ الكثيرون قرار تغيير المسار المهني بسبب عدم سعادتهم في مجالهم الحالي وشعورهم بأنه لا يتناسب مع ما يميزهم.
– الحاجة إلى التطوير الوظيفي: حيث يسعى البعض لتغيير مسارهم المهني بسبب شعورهم بعدم التطور في الوظيفة الحالية، وذلك بعد قضاء سنوات طويلة في المجال نفسه أو ربما في الوظيفة نفسها دون أي تغير أو تطور في خبراتهم ومهاراتهم، ما يجعلهم يشعرون بعدم الرضا الوظيفي والإنجاز؛ فيسعون إلى تغيير المجال للحصول على فرص تعلم وخبرات أفضل، وفي المقابل راتب وجودة حياة أفضل.
– تحقيق الأحلام الوظيفية: فظهور أنماط جديدة من العمل وكسب العيش مثل العمل الحرfreelancing وانتشار مجال ريادة الأعمال entrepreneurship شجع الكثيرين على ترك عملهم لتحقيق أحلامهم القديمة من خلال عمل خاص يجمع بين نمط شخصيتهم وأحلامهم الشخصية وفي الوقت ذاته تحقيق مطالبهم المادية.
– تغير ظروف الحياة: أحيانًا يكون قرار تغيير المسار المهني نتيجة تغيير الشخص مكان إقامته في مدينة أو ربما بلد جديدة تكون متطلبات سوق العمل فيه مختلفة، أو نتيجة إصابة تمنعه من الاستمرار في وظيفته الحالية أو نتيجة لظروف أسرية تلزمه بالتواجد مع أسرته بشكل أكبر، وغيرها من ظروف الحياة المتعددة.
– السعي وراء إنهاء المسار المهني نهاية مميزة: ففي المراحل المتقدمة من العمر وبعد زيادة الخبرة والمهارة والحصول على سمعة كبيرة في مجال ما، يسعي البعض إلى توظيف هذه العلاقات والخبرات في مجال آخر يحقق لهم النجاح ذاته الذي حدث في الوظيفة أو الوظائف الأولى.
فإذا وجدت تلك الأسباب أو بعضها ينطبق عليك، فأنت تحتاج إلى تغيير مسارك المهني، فلا تتردد في التفكير في الأمر واتخاذ القرار الصحيح، ولكن هذا القرار يحتاج إلى تخطيط ودراسة قبل تنفيذه، فيجب عليك أولًا التعرف بشكل أعمق على نمط شخصيتك، وما مواصفات الوظيفة التي تريد الانتقال إليها، وما الاستعدادات التي يجب أن تحققها حتى يتم تغيير مسارك الوظيفي بشكل ناجح، وهذا ما سنقوم بالحديث عنه في مقالات أخرى قادمة.