مغامرة أم خطة مدروسة؟! … سؤال مشروع عن تغيير المسار المهني
في بعض الأحيان نحس بأن تخصصنا الذي نعمل به ربما منذ سنوات أصبح لا يحقق لنا الرضا والسعادة، أو أصبح لا يحقق لنا القدر الكافي من الاحتياجات المادية، ونفكر أو نتطلع إلى تغيير مسارنا المهني، ولكن الفكرة تقف عن هذا، بسبب مشاعر الخوف والقلق من تبعات تغيير المسار المهني، التي تجعل الكثيرون يتنازلون عن مجرد محاولة أخذ خطوات عملية؛ حيث يقفز في أذهانهم العديد من الأسئلة والتجارب: هل ستبدأ من جديد؟! هل تتصور أنك ستنجح؟! ألا تتذكر فلان الذي ترك الشركة وقام بتأسيس عمل خاص ولم ينجح؟! هل الأفضل هو الأمان في وظيفة لا أحبها أم الرضا في وظيفة جديدة غير آمنة؟! إلى غير ذلك من الأسئلة التي تشكل دائرة حولنا نظل محبوسين فيها من دون الوصول إلى إجابة وافية نستطيع أخذ قرار واعي ومستبصر بناء عليها.
وقبل أن أتكلم عن تلك الطريقة في التفكير، دعونا أولًا نتابع تلك الإحصائيات التي ذكرها Jim Collins في كتابة Good to Great التي قام فيها بتحليل أسباب نجاح الشركات ووصولها للعالمية واندثار أخرى في آخر 150 عام، فذكر أن:
- ضمن من 100 شركة عاملة في عام 1900 هناك فقط 16 منها مازال يعمل في عام 2000.
- من ضمن 500 شركة قامت بجني أرباح في 1955، ربعهم فقط قد استطاع المضي قدمًا حتى عام 2005.
- 90% من الأعمال الجديدة في عصرنا الآن يقوم بها رواد الأعمال والشركات الصغيرة.
ولذلك، فقبل أن نسأل أنفسنا عن إمكانية تغيير المسار، لدينا سؤال أهم وأخطر: هل نفكر بمعزل عن التغيرات التي تحدث حولنا أم لا؟ هل نقوم بوضع تلك التغيرات الحادثة في العالم الذي جعله على أعتاب ثورة صناعية رابعة، وبالتالي ستختلف احتياجات السوق والمجالات وبالتالي الوظائف؟ هل يمكن أن تكون وظيفتنا في المستقبل ضمن تلك الوظائف التي أصبحت غير موجودة أو غير مهمة أو على الأقل ذات دخل مالي قليل؟
إن تغيير المسار المهني يضع كل ما سبق في اعتباره، أنها ليست مغامرة غير مأمونة العواقب، أو نوع من المضاربات التي قد تجعلك مليونيرًا أو تخسر معها كل أموالك، على العكس من ذلك، فتغيير المسار المهني يخضع لعدة خطوات دقيقة ومدروسة، فهو يعتبر علمًا من ضمن العلوم الإنسانية الذي لديه كتب ومحاضرات وشهادات اعتماد ودوريات ممتدة لأكثر من 120 عامًا، وسأتحدث سريعًا عن تاريخه وتطوره قبل أن أتحدث عن أهم مراحله حتى نعرف أنها خطة شديدة الإحكام، شديدة الأمان، بها القدر نفسه من المغامرة الموجودة ببقائك في وظيفتك التي لا تحبها ولا تتطور فيها، وبالتالي قد لا يكون لك مجال للترقي.
ظهر مجال الإرشاد المهني في أمريكا عام 1890 ومر بعدة مراحل تطور تأثرًا بالعوامل الاقتصادية والاجتماعية، ويمكن تقسيم تاريخ الإرشاد المهني إلى خمسة مراحل، وهما:
- 1890 – 1919: تم افتتاح مراكز هدفها التوظيف وخدمة استقطاب الموظفين لمجالات الزراعة والصناعة وكان يسمي بالتوجيه الوظيفي Vocational guidance ، وركز علي توجيه الباحثين عن عمل للوظائف الشاغرة في المصانع والأراضي الزراعية وهو ما عرف في مصر بمكاتب التوظيف.
- 1920 – 1939: تطور مفهوم التوجيه الوظيفي إلى التوجيه التعليمي في مراحل ما قبل الجامعة، بسبب احتياج سوق العمل في هذه الفترة لحرفين وعاملين في مجالات تتطلب دراسة وإعداد مسبق، وبالتالي بدأ الاهتمام بتوجيه الأطفال والشباب للالتحاق بالمدارس الفنية بناء على احتياج سوق العمل، وحثهم على احتراف هذه الوظائف لخدمة أهداف المصانع المنتشرة.
- 1940 – 1959: تطور الاهتمام بالتوجيه المهني في المرحلة الجامعية، من خلال حث الطلاب على اختيار مسارات مهنية تتناسب مع سوق العمل واحتياجاته، مما يحقق لهم الكسب المادي المُرضي لهم، ويقوم في المقابل بسد احتياجات سوق العمل.
- 1960 – 1979: أدى اهتمام الباحثين عن عمل بتحقيق “الرضا الوظيفي” إلى ظهور نمط جديد في اختيار العمل، والانتقال من تعريف العمل أنه مجرد مصدر لكسب العيش فقط إلى أنه وسيلة لإعطاء معنى للحياة، ومع هذا التغير بدأت الشركات والمؤسسات تفكر في التطوير المهني داخل المؤسسة Organizational career development لإعطاء معنى ودافع للموظف، مع الاهتمام بحصوله على مكاسب غير مادية تحقق له مزيد من الرضا الوظيفي في ظل المنافسة وضغوط العمل.
- 1980 – 1989: مع التحول من العصر الصناعي إلي عصر المعلومات، بدء تطور مجال الارشاد المهني كمجال مستقل بعد ما كان جزءًا من المؤسسات المهتمة بالتوظيف وتطوير الموظفين، وبدأ ظهور مكاتب وشركات التوظيف المستقلة Recruitment agencies ، وأصبحت الشركات تهتم بالتعاقد مع مراكز إرشاد مهني مستقلة للقيام بدور التوظيف، وعلى الجانب الآخر تطورت دراسة الإرشاد المهني لتشمل أسباب عدم الرضا الوظيفي، وكيف يحقق العمل الرضا والمعنى للموظفين، وبدأ الممارسين له في دراسة علم نفس الشخصية، وتطورت نظريات الميول المهنية مثل نظرية John Holland for Career Interest
وهكذا، نرى أن تغيير المسار المهني ليست مغامرة محفوفة بالمخاطر للانتقال من وظيفة إلى أخرى، فهي عملية مدروسة لإكساب الأفراد مهارات جمع المعلومات عن أنفسهم وعن عالم العمل، وذلك من خلال الإجابة عن ثلاثة أسئلة للتنمية المهنية:
- من أنا؟
- ما الأهداف التي تناسبني؟
- كيف أصل إلى تلك الأهداف؟
ويتم الإجابة على السؤال الأول (من أنا) من خلال تشجيع الأفراد على التعرف على السمات الوظيفية والشخصية الفريدة لكل فرد، ثم يتم تحليل نتائج هذه المرحلة للتعرف على المسارات الوظيفية الأنسب للشخص.
ثم في مرحلة تالية يتم العمل على جمع معلومات عن الأهداف الوظيفية التي تناسب هذا السمات، وذلك بالإجابة عن السؤال الثاني (ما هي الأهداف التي تناسبني)، ثم الانتهاء بعنصر التخطيط من خلال الجمع بين نتائج الاكتشاف.
ولذا نجد أن فهم قدرات وإمكانيات والمواهب للشخص تساعد بشكل كبير على توظيفه واستغلال قدراته في مجال وتخصص مناسب له والتأكد من مدي مناسبته لموقعه الوظيفي، وبالتالي هذا يضمن أن يكون تغيير المسار المهني عملية ناجحة، لأن هذا الفهم يتم من خلال تقييم الشخصية معتمدًا على أدوات تقييم مهنية متخصصة في مجال التوجيه المهني؛ حيث يتم فهم الشخصية من خلال تقييم التالي:
- الاهتمامات المهنية: وهي الأنشطة والمهام الوظيفية التي يفضل الشخص القيام بها وبالتالي يستطيع التميز بها.
- نمط الشخصية: وهي الطريقة التي تفضل التعامل بها مع الوقت والناس والمهام والمواقف.
- القيم المهنية: وهي الأشياء التي تتنمي تحقيقها وتوفرها في الوظيفية التي تعمل بها
- مهارات التحفيز: وهي طرق التحفيز التي تناسب الفرد.
لذا، إن كنت تفكر في تغيير مسارك المهني، لا تخف أو تقلق مطلقًا، أن لست في إحدى مغامرات روبين هود أو جاك سبارو، فقط ابدأ في أخذ الخطوات العملية المدروسة لتصل إلى الرضا والسعادة.